ليبيا : وَعد الثّورة و وَعيد الانقلاب

ليبيا : وَعد الثّورة و وَعيد الانقلاب

يوليو 01, 2018 - 21:55

بقلم: المهدي ثابت،

كاتب تونسي وباحث في الشأن الليبي

مقدّمة

لم تبلغ حالة الصراع بين الثورة والثورة المضادة ما بلغته اليوم من حدة ووضوح. فالمعادلة أضحت كاملة الجلاء: إما حكم مدني يقطع مع حكم العسكر ويؤسس لدولة الدستور والقانون والمؤسسات، أو دولة العسكر والاستبداد التي تفصل نموذج الحكم والدستور على مقاسها بما يضمن هيمنتها  ودوامها على حساب الموروث الثوري، بما يحمل من قيم ومبادئ وأهداف. إن الصراع القائم في البلاد ليس فقط مجرد صراع بين قوتين في الداخل تختلفان في المنطلقات والمنهج بل هو صراع دولي غايته النهائية السيطرة على مقدرات البلاد من ثروات واستثمارات. وللانصاف  فإن الثورة المضادة التي يقودها خليفة حفتر تحت شعار الكرامة هي من كرّست التدخل الدولي السافر في الصراع القائم. بينما  يفتقر الطرف المقابل المتمثل في خط الثورة  للطرف الدولي القوي الذي يسنده في صراعه. وهذا ما جعل من الكرامة على ضعفها طرفا رئيسيا في المعادلة لا يمكن تجاوزه. إذ ليس من السهل استشراف مستقبل الصراع في البلاد ما لم يقع تفكيك تناقضات الساحة الداخلية وطبيعة التدخل الدولي والاقليمي من خلال التأثير على الأطراف الرئيسية الثلاث وهي: حكومة الوفاق الوطني وتيار الثورة وتنظيم الكرامة.

حكومة  الوفاق: واقع الضّعف والتبعيّة

رغم الاعتراف الدولي الذي تحظى به هذه الحكومة تظل على أرض الواقع في حالة ضعف شديد. فهي ليست لها القدرة على التدخل الفعلي لفض النزاعات لصالح الاستقرار في البلاد. بل إنها عاجزة حتى أن تكون طرفا محايدا في الصراع القائم لأنها واقعة تحت ضغوط شديدة مسلطة عليها من أطراف إقليمية ودولية متنفذة سياسيا وعسكريا وأمنيا  في البلاد. وليس في الشرق فقط، بل في المنطقة الغربية ايضا حيث الثقل الديمغرافي والعسكري والاقتصادي وحيث العاصمة بما تمثله من أهمية إستراتيجية. إن مواقف السراج تظهر بوضوح أنه اقرب إلى الأطراف المتحالفة مع فرنسا والإمارات ومصر. وهذه الدول بالنسبة للمراقب للشأن الليبي يدرك مدى نفوذها القوي جدا في البلاد وهو ما لا يستطيع  السراج تجاوزه. وهذا ما ألّب عليه تيارا عريضا في الشارع، وكذلك كل القوى السياسية المحسوبة على خط فبراير. والحديث اليوم عن إعداد واستعداد لاقتحام العاصمة طرابلس من المدن المحسوبة على الثورة يبقى أمرا قائما رغم التوجه الدولي المصر على ضرورة بقاء العاصمة آمنة، ذلك أن تيار الثورة بدأ يشعر فعلا أن مصير  الثورة والثوار في خطر أمام تغوّل المشاريع الأجنبية في البلاد وخصوصا المشروع الإماراتي المصري المدعوم بقوة من فرنسا.

تيار فبراير : غياب المشروع وتخبّط الأداء

لا يزال تيار ثورة 17فبراير هو التيار الأقوى في البلاد رغم غياب الوحدة داخل مكوناته بفعل غياب المشروع السياسي والحقوقي الذي يجمعه تحت مظلة واحدة. لقد ظل هذا التيار طيلة السنوات الماضية (من بعد عملية فجر ليبيا سنة 2014)يتعاطى مع الأحداث والمتغيرات بردات الأفعال بعكس المشروع المضاد (تيار الكرامة) الذي كان يتحرك وفق خطط ورؤى مدروسة تشرف عليها غرف عمليات أجنبية، وهو ما مكنه من التمدد خصوصا في شرق البلاد وجنوبها وفي بعض مناطق المنطقة الغربية. إن حالة الفرقة والضعف الذي يعرفها تيار الثورة لها أسبابها المتعددة. ومن أهم تلك الأسباب غياب الشخصية الكاريزمية الجامعة التي تحمل مشروعا واقعيا يراعي معطيات الداخل والخارج والقادرة على التجميع والتوفيق بين مختلف الفرقاء داخل هذا التيار.والسبب الثاني، والأهم في حالة الفرقة، هو توغّل الأجندات الأجنبية داخل هذا التيار ومحاولة جر بعض مكوناته إلى مربعات أخرى قد تصل إلى حد العداء مع ثورة فبراير. إن كل القوى الأجنبية التي تتحرك داخل الساحة الليبية تدرك أهمية تيار الثورة ولذلك تعمل على إضعافه وتدجينه، وقد تمكنت من ذلك إلى حد معين. كما أن حكومة الوفاق بقيادة السراج تسعى جاهدة إلى استيعاب قيادات تراها مؤثرة في هذا التيار وذلك في محاولة منها لإضعافه قدر الإمكان ليستقر لها الأمر في المنطقة الغربية حيث الوجود القوي للتنظيمات السياسية والعسكرية المحسوبة على الثورة. ولكن يبقى هذا التيار قادرا على لملمة صفوفه وتجاوز خلافاته متى أسس لنفسه مشروعا سياسيا يخاطب به الداخل والخارج.

الكرامة: مشروع العسكرة والثّورة المضادّة

يعلم الجميع أن هذا المشروع ولد في ليبيا مباشرة بعد الانقلاب العسكري على الشرعية في مصر سنة 2013. وانتقل مباشرة إلى الشرق قرب الحدود المصرية. ومن هناك بدأ العمل الفعلي عبر التعاون الاستخباراتي والعسكري مع الجارة الشرقية التي ترى في الثورة الليبية خطرا يهدد كيان حكم العسكر في البلاد. إن الكرامة هي مشروع إماراتي مصري بامتياز لا علاقة له بمحاربة الإرهاب بل الغاية وأد الثورة الليبية وإحلال حكم العسكر مكانها. لقد وفرت دولتا مصر والإمارات كل الأسباب الضرورية من سلاح ومال واستخبارات وإعلام لهذا التنظيم طيلة السنوات الأربعة الفائتة ومكنته من السيطرة على المنطقة الشرقية من البلاد. لقد تمكن مشروع الكرامة إلى حد الآن من تصفية كل ثوار المنطقة الشرقية ومنع فيها الإحتفال بثورة فبراير. وهو يسعى الآن إلى التمدد داخل المنطقة الغربية برعاية إماراتية مصرية فرنسية. إن تنظيم الكرامة بسيطرته على الهلال النفطي الشريان الرئيس للاقتصاد بالبلاد يظل يمسك بأهم ورقة تفاوضية على الإطلاق في الداخل والخارج وتجعل منه رقما رئيسا في معادلتي الحرب والسلم. وسنوضح ذلك أكثر عند حديثنا عن معركة الهلال النفطي الأخيرة. وأيضا لا بد من الإشارة إلى أن هذا التنظيم استغل حالة الفرقة الداخلية لتيار الثورة وغياب المشروع الاستراتيجي ليوطد لنفسه موطئ قدم في المنطقة الغربية .ويطمح عبر الضغط على حكومة السراج من الإمارات وفرنسا لفرض أجندة سياسية تصب في مصلحته في النهاية. ومن ذلك إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية قبل إقرار الدستور. ومن المفارقات السياسية العجيبة في ليبيا أن مشروع الكرامة لا يعترف بالإتفاق السياسي ولا يعترف بحكومة السراج ولا بالمجلس الأعلى للدولة. ورغم ذلك نجد  السراج يهادن هذا التنظيم بل لم  يندد بأي جريمة من جرائمه في حق الليبيين، رغم أنها موثقة لدى محكمة الجنايات الدولية ولدى منظمات حقوق الإنسان. وهذا يدلّ على أن السراج قراره مرتهن لدى قوى إقليمية ودولية تشتغل ضد مصلحة ليبيا ومصلحة الثورة وأيضا لدى كتائب عسكرية مسيطرة على العاصمة طرابلس وهواها ليس مع فبراير.

المعركة الأخيرة في الهلال النفطي

يعتبر الهلال النفطي في ليبيا أهم منطقة اقتصادية في البلاد على الإطلاق وهو محل اهتمام كل القوى الدولية المتدخلة في الشأن الليبي. ومن يسيطر على هذه المنطقة يفرض نفسه على الجميع كطرف فاعل في البلاد. وكان الهلال النفطي طيلة سنوات ما بعد الثورة محل تجاذب وسيطرة من قوى مختلفة داخل البلاد. في سنة ،2016 تمكن تنظيم الكرامة من السيطرة على الهلال النفطي عندما أخرج منها قوات حرس المنشات النفطية التي يقودها ابراهيم الجضران وهي القوة الشرعية التي أمنت الموانئ والحقول من سنة 2011. وتمت السيطرة على هذه المنشات بدعم الطيران المصري والإماراتي لقوات الجنرال حفتر وسط صمت دولي مريب ودون تحرك أو تنديد من حكومة الوفاق المعترف بها دوليا. وفي المدة الأخيرة تمكنت قوات حرس المنشات النفطية بقيادة ابراهيم الجضران من العودة إلى الهلال النفطي والسيطرة عليه في ساعات وجيزة .ولقي هذا العمل تنديدا من حكومة السراج رغم أن الطرف المهاجم هو الطرف الشرعي بخلاف قوات حفتر التي لا تحظى بأي شرعية. وقد نزل البعض هذه العملية في إطار الصراع الفرنسي الإيطالي على النفوذ في ليبيا. فالجضران ما كان ليتحرك نحو الموانئ لو لم يأته الضوء الأخضر من إيطاليا، وربما من الولايات المتحدة الأمريكية التي تنظر بعين الريبة للنفوذ الفرنسي المتعاظم في البلاد عبر دعمها اللامحدود للجنرال حفتر الذي وعدها بتسليمها الجنوب الليبي بما يحوي من ثروات باطنية كبرى. كما أن إيطاليا منزعجة جدا من المساعي الفرنسية التي سماها وزير الخارجية الايطالي مؤخرا في تصرح خالف فيه الإعراف الدبلوماسية بأنها محاولات فرنسية لاحتلال ليبيا وهو ما جعل فرنسا ترد الفعل بقوة وتوعز لحليفيها مصر والإمارات بالتدخل المباشر في المعركة عبر الطيران لإخراج قوات الجضران من الموانئ. وهو ما تم بالفعل لتعيد قوات حفتر السيطرة من جديد على الهلال النفطي. إن ما جرى مؤخرا في الهلال النفطي أفرز جملة من النتائج لا يمكن للمتابع للملف الليبي تجاهلها. وهي تتلخص في مجموعة من النقاط:

- تواطؤ حكومة السيد السراج من خلال الصمت  المريب عما جرى وهو ما يضعها في مربّع الإتهام بأنها منحازة لتيار الكرامة.

- العجز المطلق لتيار الثورة الذي بقي متفرجا واكتفي بالتنديد على الطريقة العربية من الصراع العربي الإسرائيلي.

- الضعف الشديد لقوات حفتر حيث ظهرت نمرا من ورق إذ تم طردها من مساحة واسعة من الأرض في ظرف ساعات وبأسلحة تقليدية ودون سلاح الطيران.

- العجز العسكري للجنرال حفتر دون الطيران الأجنبي.

- التواطؤ الدولي الذي يبحث عن مصلحته فقط في الصراع الداخلي في ليبيا.

- الدعم المصري والإماراتي والفرنسي لمشروع حفتر وإصرار هذه الدول على تمدده في البلاد حتى السيطرة عليها.

- غياب الرؤية والمشروع لخط الثورة . فلو كان للقيادات العسكرية للثوار أقل قليلا من إصرار الجضران لتمكنت من إعادة مصدر قوت الليبيين إلى الجهة الشرعية في طرابلس.

- إن المنجز الأخير لقوات حفتر سيشجعها على التمدد غرب الموانئ النفطية أي في اتجاه مصراته القوة الضاربة لخط الثورة.

- والنتيجة الأهم التي يمكن الخروج بها هو أن الحل والاستقرار في ليبيا لازال بعيد المنال.

الأجندات الأجنبية في ليبيا

لقد تحولت الساحة الليبية إلى ساحة صراع محموم بين أطراف أجنبية تسعى للسيطرة على مقدرات البلاد عبر فرض  وجودها في الحل النهائي . ويمكن الحديث اليوم عن أربع قوى دولية فاعلة بقوة في البلاد وهي الامارات العربية المتحدة ومصر وفرنسا وإيطاليا.وقوى أخرى حاضرة ولكن ليس بكثير من الفاعلية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا. تقف الامارات ومصر وفرنسا بقوة خلف الجنرال حفتر، وهي من فرضته عسكريا وسياسيا. ولكل دولة من هذه الدول مصالحها الخاصة. فالامارات ليس من صالحها نجاح الثورة في ليبيا وانتشار الديمقراطية في المنطقة العربية بما يهدد الملكيات التقليدية في الخليج. كما تسعى للسيطرة على الموانئ الليبية التي يمكن أن تزاحم ميناء دبي في المستقبل متى استقرت الأوضاع في البلاد. وبالنسبة الى مصر فهي تسعى إلى إرساء نظام عسكري على نموذجها وتسعى إلى السيطرة على نفط برقة. وترى في حفتر الحليف النادر الذي سيؤمن لها هذا الغرض. أما فرنسا فعينها على الجنوب الليبي الغني بالثروات والمطل على مستعمراتها السابقة جنوب الصحراء وهي تشاد والنيجر ومالي. إن عملية الكرامة ما كان ليكون لها وجود لولا دعم هذه الدول الثلاث. فمصر والإمارات تدعم ماديا وعسكريا وإعلاميا وفرنسا تؤمن الغطاء الدولي عبر المسعى السياسي ومن خلال حضورها في المنتظم الأممي. وبالنسبة الى  إيطاليا فرغم حضورها القوي في الملف، وخاصة في العاصمة طرابلس، إلا أن دورها مؤخرا بدأ يتقلص لفائدة فرنسا. فإيطاليا تسعى لإنجاح الاتفاق السياسي عبر دعمها لحكومة السراج الضعيفة. ولم تتحالف مع تيار الثورة الذي يغلب عليه السمت الإسلامي. وتبقى مشكلتها الأساسية الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تدعمها فرنسا سريا وتستعملها كورقة ضغط للحد من النفوذ الإيطالي عبر إغراقها في هذا الملف. فرهان إيطاليا على نجاح الاتفاق السياسي، من خلال دعمها لحكومة السراج، هو خيار فاشل في ليبيا  لأن سياسية الأمر الواقع وفرض الوجود على الأرض سواء عبر السلاح أو غيره يبقى الخيار الأكثر واقعية في الحالة الليبية بعيدا عن طموحات الأمم المتحدة التي خفت وجودها كثيرا في ليبيا في المدة الأخيرة. وبالنسبة للولايات المتحدة فإنها تراقب الأوضاع من بعيد وهي أقرب للحليف الإيطالي في رؤيتها للحل في ليبيا. ولم تمارس نفوذها الحقيقي عبر الضغط بقوة على الأطراف المتدخلة سواء العربية أو الغربية.وهي تتعاطى مع حالة حفتر بحذر فمن جهة هي لا تريد إنهاءه لأن مبررات وجوده لازالت قائمة كما لا تريده أن يقوى لدرجة تصبح السيطرة عليه أمرا صعبا.

آفاق المشهد في ظل التّنازع

إن المشهد العام في البلاد يوحي بأن الأوضاع لازالت معقدة وأن حلا قريبا يبقى صعب المنال. فحكومة السراج مهددة في وجودها بفعل استشراء الفساد على كل الصعد واستفحال الأزمات التي تؤرق المواطن. وهذه من المبررات الإضافية التي تشجع على اقتحام العاصمة وقلب الأوضاع فيها ودخول البلاد في مرحلة جديدة من الصراع وهو أمر غير مستبعد تماما.وإلى جانب ذلك يسعى حفتر إلى السيطرة على مدينة درنة في الشرق الليبي ليبسط هيمنته على كامل المنطقة الشرقية ثم التوجه نحو الغرب  مدعوما بقوة من حلفائه. إن حفتر لا يملك من القوة البشرية ما يمكنه من خوض حرب في المنطقة الغربية. ولكنه قادر على فتح جبهات صغيرة يستنزف فيها قوة الثوار ويقوي من رصيده كطرف يسعى الى السلطة سواء بالوسائل العسكرية أو السياسية.وهو يسعى في هذه المرحلة إلى شراء الذّمم في المنطقة الغربية بالمال الفاسد القادم إليه من دولة الإمارات التي تتصرف في الأرصدة الليبية لديها. أما حلفاؤه فهم يضغطون على  السراج وعلى الأمم المتحدة لضرورة إجراء إنتخابات رئاسية وتشريعية قبل نهاية هذه السنة وقبل إقرار الدستور وهو أمر مرفوض من تيار فبراير الذي يفضل الحل السياسي على الحل العسكري. وهو يرى أن إقرار الدستور هي الخطوة الأولى والضامنة لنجاح العملية السياسية بكل مراحلها. وبالمجمل فإن بلادا تعجّ بالسلاح وبالكتائب العسكرية المسلحة تبقى مرشحة لكل السيناريوهات.

خاتمة

لقد ثبت بعد مرور أكثر من تسعة أشهر أن خارطة الطريق التي أعلنها مبعوث الأمم المتحدة  غسّان سلامة لم تكن الإطار الملائم للحل، وأنها أضحت من الماضي في ظل التطورات الحاصلة في البلاد وأن الصراع القائم هو صراع دولي بامتياز. وعلى النخب الليبية في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلادهم أن يعوا حجم المخاطر القادمة من الخارج وأن يسارع الجميع إلى الالتفاف حول مشروع وطني جامع ينقذ بلادهم من الوضع القاتم الذي تردت فيه بعيدا عن المطامع الأجنبية التي عمقت الصراع ودوّلته.

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كتابها)