الخير الذي ينقلب شرا
مقال رأي للكاتب محمد أبوغرارة
17 من مارس الماضي، يومها رافقت آلاف من زملائي السائقين في الطريق السريع مشية الهوينا كأننا نشيع جنازة ملكية أو شيء أقرب لما يعرف بمشية الفيل في عالم الطيران.
وبدون تعقيدات وتشبيهات لجعل الأمر كأنه ملحمة، بالمختصر أني حصلت في زحمة السريع لمدة نصف ساعة، الأمر الذي قد تستغرب -مولاي القارئ- من استغرابي منه كأنه شيء لا يحدث كل يوم ثلاثة مرات، والحقيقة ليس لدي إجابة تحفظ لي احترام القارئ غير أني أحاول هنا فعل كل ما يفعله المفكرون العميقون وهو أخذ حدث عابر هامشي من الحياة تم تمطيطه لجعل منه مثال عن "مشكلة ليبيا والليبيين" دون الخروج بحل طبعا.
لهذا تمشى معي في زحمة السريع:
كما هي العادة البداية تكون بـ"سيك" ضغطة فرامل قوية تسرق ابتسامة صباحك وتبدلك بها هلع أنك كدت تصدم من أمام ثم هلع أن خلفك كاد أن يطفأ سيارته فيك..بعد أن تسعيد أنفاسك وأنت تنساب بفعل القصور الذاتي و تتأرجح خلفا مع الطلعة بسرعة خوفا من أن يخش سائق أمامك، ثم أماما لأنك ضغطت المكابح
فجأة.. وأنت تتحرك مثل كوبرا بين حارات السيارات لأنك عندما تكون في اليسار يتحرك محور اليمين و من الإطناب القول أنك عندما تأخذ موقف وتمشي لليمين يتوقف ويتحرك اليسار فتعود. وأنت في هذه الحركة الهلامية تبدأ عملياتك العقلية في إطلاق حكم عن سبب هذه الزحمة بناء على شدة الزحمة واستمرارها
هل هو إطار أحدهم انفجر -العذر المفضل للموظفين المتأخرين- أم هو سيارة مفورة من الحرارة صاحبها فاتح غطاء المحرك وواقف جنبها بفخر؟ .. و لكن عند مستوى معين من الزحمة لاوعيك -الـ هو- بتعبير فرويدي لا يقبل بشيء أقل من حادث شنيع اشتركت به على الأقل أربعة سيارات وهذا أمر لا وعيي فلا تحكم على نفسك من خلاله سيدي المصاب بكرب ما بعد الصدمة.
لكن هذه المرة كان السبب مختلفا
كان السبب نقيا..كان سبب الزحمة مدفوعا بأفضل النزعات البشرية : التنظيف.
بل يرقى لأكثر أنواع التنظيف المؤرق لربات البيوت كنس الأتربة…
كانت شركة النظافة وقد جندت جندها لكنس التراب من على حافة الطريق.
ولأني أعرف أن الإنسان-وأنا إنسان- كائن أناني ولا يرضى بأقل من أن يكون نظام المرور يتمحور حوله ويعمل من أجل تسريح الطريق له، فقد سارعت لمنع نفسي من لعن العاملين المجتهدين، و بدل أن ألعن قررت أن اترقى ذاتيا عبر طرح الأسئلة على نفسي حول الحكمة من كنس الصحراء..احم اقصد السريع وكيف أن جعل رصيف السريع نظيفا "تلحس عليه الزيت" هو أعلى غايات وجود هذا الطريق وليس طريقا سريعا ليس به ما يعرقل حركة السير.
و كشخص تعرض لبعض ورش التنمية البشرية فقد رأيت أنه لا أفضل من عمل عصف فكري..فقلت :
• هل تنظيف الطريق يحتاج لضوء النهار؟
• هل يستحيل أن يعمل عمال النظافة العمل خارج ساعات الدوام الرسمي؟
• هل التنظيف عملية طويلة ولابد من استمرارها نهارا وليلا؟
• ألم يصل التطور الإنساني لصناعة سيارة كنس و شفط أتربة تكون تكلفتها غير خيالية وكفائتها أكثر وأكثر سرعة بحيث أن ست سيارات منها تغطي السريع كاملا في وقت أقل بكثير؟
أسمح لنفسي بتخمين أن الجواب على كل هذه الأسئلة أنه "لا للأسف.." لأنه لا يمكنك أن تتخيل أن الجواب عليها "نعم " وقد تم تجاهل هذه الحلول الممكنة و استمروا في الطريقة الأصعب والأكثر تكلفة و استهلاكا للوقت و تسببا للزحمة في وقت الذروة، أليس كذلك؟!
أصلا كل هذه الأسئلة هي محاولة فقط لاستبعاد أمر:
-أن تعطيل كل هؤلاء الناس في ذروة ذهابهم لأشغالهم هو أمر مقصود ..وهذا شر محض حاشا لله أن يتواطأ عليه كل هؤلاء العاملين المخلصين.
والشيئ المستبعد أكثر طبعا أنهم موجودين هناك فقط من أجل التصوير وتوثيق عملهم.
ومهما يكن من أمر فإن شركة الخدمات العامة بطرابلس المنفذة لأعمال التنظيف بشكل خاص مشهود لها بعملها الاستثنائي السنوات الأخيرة
لهذا لا يبقى إلا خيار الجهل بأثر عملهم وغياب مبدأ الأولوية عن المسؤولين عن الأمر..
وعدم قدرتهم على طرح سؤال أي الأمرين أهم:
طريق منساب بأتربة على جانبيه ..أم طريق مقفل نظيف؟
هذا طبعا في حال كان لابد من أحد الخيارين ..ولا طريقة للجمع بين الأمرين.
أما والحال ليس كذلك… وكل العالم يعمل بهذه الطريقة فاستبعاد الأمر هو مجهود مرهق نفسيا.
قد يسأل سائل ويقول مادام أن حادثة الحصول في السريع تلك حدث لي منذ سبعة أشهر..ما الذي ذكرني بها الآن، الجواب أني علقت من يومين مجددا في زحمة مثلها ولنفس الأسباب ...وعندما راجعت صفحة شركة النظافة في الفيس بوك النشطة والمواكبة يوميا لعمل التنظيف لاحظت أن كثير من التعليقات يتطاير منها الشرر لنفس غضبي، ولهذا كان لا بد من وقفة. وأن الأمر متكرر وهذا يخرجه من نقطة الحدث العارض إلى دائرة الظاهرة التي تصلح لاستخراج الحكم منها.
والآن ليس أمامنا إلا التمعن والتأمل و استخراج مشكلة ليبيا من هذا المثال كما وعدناكم:
و مشكلة ليبيا ليست سوء النية، تماهى معي سيدي القارئ في هذا الافتراض الجدلي، ولكنها الحقيقة أن كل الأنظمة في ليبيا هي أنظمة تقتات على نفسها أوعلى كيان الدولة، لا أريد أن أقول أنها سرطانية تسعى بشكل محموم حتمي لتدمير نفسها كأنها حيتان تقاتل بكل قوتها للانتحار على شط النقيزة، لكن هذه هي النتيجة، و يبدو فعلا أن كل نظام ليس ناجح هو نظام مدمر لنفسه وهو ما يحول عمل شخص مجتهد خير إلى عمل فوضوي وبيه ضرر.
وإلا كيف تفسر نظام فيه رجال المرور يعطلون الإشارة الضوئية التي الوقت فيها محسوب ليستبدلوا نظام قائم على راحتهم النفسية حيث لا يشعرون بالسعادة إلا عندما يمتد طابور السيارات المنتظرة مد البصر ثم يطلقونها مثل الجواميس المهاجرة.
أو كيف تفهم وجود نظام الكتروني متكامل للرقم الوطني ثم تجد نفسك مطالبا في كل مؤسسة تتبع نفس النظام مطالبا بإحضار ورقة "أصلية" عليها هذا الرقم الوطني الإلكتروني ومختومة بختم ملوح فوق مكتب، وأني ليصيبني الدوار وأنا أحاول جبال أوراق الرقم الوطني وإلى أين تذهب، واستطيع بكل ثقة لا أساس لها أن أقول أنها لو ألصقت ببعضها للفت على الأرض ست مرات.
ماذا عن نظام يحارب غلاء الأسعار بمصادرة بضاعة الباعة ويترك معالجة الأسباب وراء الغلاء
ماذا عن نظام مصرفي جاءته فرصة قدرية مؤسفة مع مشكلات السيولة لتفعيل سبل الدفع الالكتروني لكن مازال يعشق الشيكات المصدقة والمقاصة
وشركة الكهرباء التي لتشجع الناس على تركيب عدادات زادت السعر.
ونظام تعليم يحارب الغش ليس برفع كفاءة المدرسين و زيادة التحصيل العلمي ومعالجة الأسباب ولكن بجعل علامة نجاح العام الدراسي هي انخفاض نسبة النجاح.
و و و...إلخ
كل هذه الأعمال لم يقم بها الشعب الفاسد "اللي يبي العصا" لكنها صادرة عن الأنظمة نفسها وهذا ما يجعلنا نقول أنه نظام يدمر نفسه.
وإذا كانت العبثية هي انعدام الغاية فماذا نسمي النظام الذي يعمل ضد غايته؟
ما الحل؟
وكيف لي أن أعرف، من بداية المقال قلت لك أن وظيفة المفكرين هي طرح المشاكل بدون تقديم حلول..من أنا لأخالف هذا الناموس
العتيد…لكن إن كنت مصرا على حل ما..فليس لدي إلا هذه النصيحة: ابتعد عن السريع وقت التنظيف كما تبتعد عن صالة حوشكم وقت تنشيفها.
(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)