إنهم لايستحون
بقلم الكاتب/أسامة الرياني
تابعت منذ أيام - على قناة الحدث - لقاء الأستاذ (أحمد المسماري) المتحدث باسم مليشيات حفتر، كنت أتعجب من جرأته على الكذب، لا سيما حين قال إن التنظيمات التكفيرية تسيطر على مصرف ليبيا المركزي، وأن لديه معلومات كاملة وبطاقات أمنية بشأن هؤلاء التكفيريين.
لم أستغرب هذا الكلام من المسماري، ولم أسأل ما هي التنظيمات التكفيرية، ولا تساءلت لماذا لم يذكر المسماري الإخوانَ كسابق عهده. لم أستغرب هذا لأنني تعودت على كذب المسماري، وهو كذب فجّ ساطع لا يحاول تجميله ولا تزويقه كعادة الكذابين. فهو مستعد لاتهام قوات فيغا الكبير بمساعدة غنيوة الككلي، أو يقسم على أن سلاحف النينجا تُقاتل في محور الزطارنة، هذا ليس غريبا. الغريب في نظري، أن أنصاره مازالوا يصدقونه، رغم كل تاريخه الغارق في الأكاذيب التي يحسده عليها مسيلمة ذاته.
أتساءل أحيانا من أين يأتي بتلك الصفاقة ليظهر على الهواء ويتحدث بثقة، بعد تاريخ حافل بـ"وصلنا لجزيرة الفرناج، ولا يوجد لدينا أسرى في طرابلس، والظواهري موجود في طرابلس، ولدى المقاتلين في طرابلس مدفع واحد كبير يمنع تقدمنا، ولم نُهزم لكننا أعدنا التمركز وانسحبنا تكتيكيا، وحديثه عن مُقاتل سوري اسمه (أبو شيء ما) وأنهم قتلوه في طرابلس، ليخرج ذلك السوري في اليوم التالي من داخل سوريا يُكذب المسماري ويسخر من كذبه، إضافة إلى إنكاره وجود مرتزقة أجانب في صفوفهم.
كل هذا التاريخ الأسود، لم يمنع المسماري من الخروج على الهواء، والحديث عن تكفيريين متطرفين يسيطرون على مصرف ليبيا المركزي.
والأغرب من كلام المسماري، أنك واجدٌ في أتباعه من يصدقه.
طالما رددتُ أن مجتمعنا اليوم يُعد أرضا خصبة للدراسات النفسية والاجتماعية، وآمل من الجامعات أن تأخذ كلامي هذا على محمل الجد، فلا أظنك ستجد أغرب من هذه الجموع المصدقة للمسماري، والمصفقة لقناة الحدث.
أذكر أنني استمعت للأستاذ (عز الدين عقيل) يتحدث - عبر قناة الحدث أيضا - عن مقال لصحيفة (ذي إيكونوميست) ويذكر أشياء مضحكة عن حكومة السراج، استغربتُ ما قاله، لا سيما أن (ذي إيكونوميست) كما تعلمون لا تكتب بأسماء محرريها، بل تُنسب مقالاتها للصحيفة مباشرة، وهذا يجعلها أكثر دقة وتحريا للموضوعية. رجعتُ للمقال المذكور، فوجدتُ سطرا أو سطرين مما ذكره الأستاذ (عز الدين عقيل) وتكفّلت ناصيتُه بابتكار باقي الأفكار الساذجة، التي نسبها للمقال، لم يفكر السيد عقيل أن أحدا سيبحث في المقال بعده، لذلك كان يكذب طبعا، فهو من مدرسة المسماري وامطلل ومحمود الحسّان.
تُبهرني تلك الجرأة - أو لعلها "صحة الوجه"- التي يتعاملون بها مع متابعيهم، فهم يثقون أن المتابع - بسذاجته - لن يكتشف كذبهم وأنه لو اكتشف ذلك فهو - على الأرجح – لن ينزعج من استغفاله والضحك عليه، مادام الذي فعل ذلك هو، المشير أو الجيش أو من يمثلهما.
كان أنصار مسيلمة الكذاب يرددون: (كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضر) ويقصدون بالكذاب مسيلمة بن حبيب، وبالصادق حبيبنا ﷺ.
تحدثتُ في مقال سابق عن فكرة (الطوطم) وأظن الأمر ليس بعيدا من تلك الفكرة.
نشر السيد فتحي باشاغا منذ يومين تغريدة بشأن لقائه مع من سماهم (كبار المسؤولين في واشنطن) وهو أمر لا مشكلة فيه، فقط لو ذكر لأنصاره ومتابعيه أسماء هؤلاء المسؤولين أو مناصبهم، ليحددوا من تلقاء أنفسهم إن كان المسؤولون كبارا أم لا. هذا إن تم اللقاء أصلا، فأنصار السيد باشاغا يذكرون قصة مقالته في (ذا تايمز) التي تنصل منها بشكل طفولي، وأًصرت الصحيفة على موقفها منه، لكن أنصار باشاغا لم يصروا على معرفة الحقيقة طبعا لأنهم يعرفون أن باشاغا مُحق دائما، صحيح أنهم شهدوا جميعا فضيحة تغريدته بشأن اتصاله مع السفيرة الأمريكية، ويكف كذّبته السفيرة صراحة، فاضطر للتراجع عن التغريدة وتعديلها، دون أن يكلف نفسه الاعتذار لمتابعيه الذين دلّس عليهم.
وبشأن لقاء باشاغا بـ(مسؤولين كبار) كتب أحد الأصدقاء مذكرا بقصة النصاب المالطي (Neville Gafa) الذي استقبله باشاغا أواخر 2018 حين كان وزيرا في حكومة السراج، وقدمه باعتباره مبعوثا رسميا للرئيس المالطي، لتكشف الصحافة المالطية أن المبعوث ما هو إلا مجرد نصاب، متهم بعدة قضايا احتيال.
موقف كهذا كفيل بتدمير المستقبل السياسي لأي مسؤول، لأنه يشي بوضوح بكارثية العمل داخل أروقة الدولة، لكننا في بلاد لا يُلام فيها سياسي، والمواقف المخزية والكذبات تُنسى مع الزمن، ولا يبقى إلا وجه السياسي الصقيل، ناصع البياض كأرصدة أنصاره الحمقى.
إن كذبة واحدة من هذا النوع كفيلة بإسقاط أكبر السياسيين، في مجتمع يعرف الناس فيه حقوقهم، لكنها في مجتمعاتها تمر دون أن يلتفت إليها أحد أصلا.
إن الكذب بهذه الصور الفجة على المتابعين والأنصار يعني أن السياسي سيخسر حظوظه في أي انتخابات مقبلة، وأن مستقبله السياسي صار خرابا، كمنطقة يدخلها مجرمو الكرامة. لكن الأمر في بلادنا مختلف جدا.
رغم فقر لغتي الإنجليزية، إلا أنني حفظتُ منذ طفولتي كلمات مغني الـ(ريغي) الشهير (بوب مارلي) في أغنيته (Could you be loved and be loved?) حين كان يصرخ محذرا من السياسيين الذين يستغلون السود ويستغفلونهم: لا تسمحوا لهم باستغفالكم (Don't let them fool you) ثم ليصرخ بأعلى صوته في آخر الأغنية: قل شيئا (Say something).
فمن الحكمة يا عزيزي القارئ أيا كان توجهك ألا تسمح لهم باستغفالك، وأن تقول شيئا لتعترض عمّن يكذب عليك مرارا وتكرارا. فلا أظنك أقل ذكاء وحكمة من (بوب مارلي).
لا أعرف إن كنت سأعيش حتى أرى في بلدي مسؤولا يستقيل لأن باخرة غرقت، كما فعل رئيس وزراء كوريا الجنوبية – الذي لم أحفظ اسمه الصعب للأسف - في 2014 وأذكر أنه قال في بيان استقالته حينها: (إن بكاء عائلات المفقودين يقضّ مضجعي).
أو أن أعيش لأرى استقالة رئيس وزراء بسبب أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد، كما فعل رئيس وزراء اليونان – ذو الاسم الصعب أيضا المليء بالسينات ككل الأسماء اليونانية – الذي استقال في 2015 بسبب أزمة اقتصادية "عالمية" أثرت بشكل كبير على اليونان.
ولا أظنني أعيش لأرى رئيسنا يستقيل بسبب فضيحة تجسس على خصومه، كما حدث مع الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) "الحمد لله أن اسمه سهل" في قصة (ووترجيت) التي تعرفونها جميعا.
كنت أرغب في تضمين المقال قصةُ عضو البرلمان الذي تُنشر له فضائح أستحي من ذكرها، ويظهر علينا - بكل صفاقة - في اليوم التالي مُنظّرا ومُحللا، وكأن فضيحته لم تكن. لكن المقال طال، والحديث عن مثل ذلك قد يجرنا لما يُستحى منه، وهم قوم لا يستحون طبعا، لكن القارئ الكريم ليس كذلك.
وما أفصح النبي ﷺ إذ يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)
(المقالات المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)