ليلة سقوط عقيلة
عبدالله الكبير - كاتب صحفي
ماجرى خلال الأسبوع الماضي شكل بروفة عملية لمعالم الانتخابات المقبلة، فالقذيفة التي أطلقها رئيس البرلمان بسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية ارتدت عليه، وكشفت تدني شعبيته في الوقت الذي كان يستعد فيه لخوض الانتخابات، وقد أجبره الحراك الشعبي الواسع الرافض لها، إلى الخروج لتبريرها عبر الفضائيات مرتين، وهو مايعكس حالة الصدمة التي أصابته، بسبب حماقة غير محسوبة بدقة تلائم دقة وحساسية المرحلة على بعد أمتار قليلة من امتحان الانتخابات. وفي الخروج الثاني فتح باب التراجع عن قرار سحب الثقة من الحكومة، محاولا تبرئة نفسه بتحميل الأمر على النواب، وأشار إلى استمرار التشاور مع المجلس الأعلى للدولة، بعد أن انكر طويلا شراكة المجلس الأعلى للدولة في صياغة بعض القوانين طبقا للاتفاق السياسي.
قبل الظهور الثاني انتظر صالح مشهد المظاهرات المؤيدة له في برقة مؤملا احتشاد الآلاف، حتى يواجه حكومة الوفاق في ملعب جديد نفض عنه الغبار وعاد لفعاليته، ولكن القلة الهزيلة التي خرجت في بنغازي، بالتوازي مع وقفات وبيانات في مدن أخرى في الشرق مؤيدة للحكومة، اذابت جليد الأوهام وكشفت الحقيقة لصالح، فهرع مسرعا ليظهر في برنامج شهير ملقيا خطاب التراجع. واجتر كعادته أسباب سحب الثقة من الحكومة بالتركيز على العقود التي ابرمتها مع الخارج، متماهيا مع أسباب دعم الناس للحكومة، بتكراره دعوته للحكومة بالاستمرار في دعم الشباب، وتحسين أوضاع الناس، وتقديم كافة الخدمات لهم.
يريد صالح من الناس أن يصدقوا حرصه على أموال الليبيين، بما قد تسببه العقود الخارجية من ديون على الدولة الليبية، وعلى الفور استعادت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية، أحاديث بعض النواب عن فساد مجلس النواب وهدره للأموال، ونشرت وفواتير مصروفات رئيسه صالح الباذخة في الفنادق الفاخرة خارج البلاد، وعادت ذكريات تأييده لسفك الدماء، بمنح الشرعية والتأييد لحرب حفتر على العاصمة لينشر فيها الدمار والخراب والمقابر الجماعية. فمن يزعم الحرص على الأموال لابد أن يحرص أولا على حفظ الدماء فهي أولى وأهم من المال والعمران.
يصف الليبيون المحظوظ بأن الريح تجمع له الحطب، وهذا ماحصل مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، والريح هنا هي غباء صالح الذي ظن أنه يلعب السياسة بمهارة منقطعة النظير، ولم يتردد إعلامي مخضرم غادر البلاد اكثر من ربع قرن ولكنه ظل أسير جهويته، في نعت صالح بالثعلب الداهية. بينما الحقيقة لا دهاء ولا قدرات سياسية، بل استغلال لتناقضات المصالح الدولية حول ليبيا، ورغبة دول فاعلة في تهدئة الصراع دفعها للتغاضي عن تجاوزاته وتعنته. تماما مثلما يتفادى حكم مباراة كرة مخالفات لاعب مغرور ومتهور له نفوذ في بلد متخلف لكي يصل بالمباراة إلى بر الأمان.
تطور الأزمة المفتعلة من رئيس البرلمان وبعض الأطراف السياسية، والمناخ الملائم للتصعيد من قبل رئيس الحكومة، دفعت الأطراف الدولية للتدخل بدعوة الطرفين للتهدئة وعدم التصعيد، وكانت الرسالة الموجهة من المؤتمر الوزاري المنعقد بنيويورك، على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة واضحة. لاتراجع عن انتخابات ديسمبر وعلى كل الأطراف التوافق حول القاعدة الدستورية وقوانين الانتخابات. ولأول مرة مع المبعوث الأممي الجديد كوبيش تصدر البعثة الأممية بيانا حازما يقلل من أهمية قرار برلمان صالح، مؤكدا استمرار الحكومة في مهامها حتى تشكيل حكومة جديدة عقب الانتخابات.
تطورات مثيرة في زمن وجيز ستدفع كل الأطراف إلى مراجعة مواقفها، والبحث في كل الخيارات الممكنة للبقاء في المشهد، بعد بروز متغيرين لم يكونا في الحسبان. عودة الحراك للشارع، وصعود نجم رئيس الحكومة باقترابه من الناس، وسعيه لتلبية حاجاتهم كتقديم منحة للشباب المقبل على الزواج، وتنفيذ قرارات البرلمان بزيادة المرتبات، والشروع في أعمال الصيانة لبعض المنشآت والطرقات، فضلا عن خصاله الشخصية المتميزة. فبساطته، وتفرده من بين كل الشخصيات العابرة في المشهد السياسي، في مخاطبة الناس بلغة غير رسمية، وجلوسه وحديثه ومزاحه معهم في المقاهي وغيرها من الفضاءات العامة من دون تكلف، وعدم إظهاره للمظاهر الباذخة للسلطة. كان لها تأثير بالغ في هذا الانقلاب في المشهد السياسي.
فالليبيون، كما كل الشعوب العربية، يظهرون الولاء للملك أو الحاكم، ويهتفون بحياته ودوام سلطانه، ولكنهم في اعماقهم يكرهونه، تثير سخطهم المكتوم مظاهر التسلط التي يحيط بها نفسه، وانصياعهم له إنما يقع بسبب سطوته، وحيازته لأدوات القهر، وقدرته على الفتك. بينما يقبلون طوعا الخضوع للحاكم غير المتسلط الذي يتجنب استفزازهم بالمظاهر الباذخة، ولا يتعالى عليهم، ويعيش في مستوى يعادل أواسطهم.
كان السبب الظاهري لقتل كليب بن ربيعة أول ملوك العرب هو قتله لناقة البسوس، فاشتعلت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة، لكن السبب الخفي هو مبالغته في الزهو والكبر واحتقاره للآخرين، وهو سلوك أوقد مشاعر الكره والنقمة في نفوس قبائل معد، لأنه منهج ممقوت غير مستساغ لدى العرب.
تشير كل الاستطلاعات وعمليات سبر الآراء إلى التفوق الكاسح للدبيبة على كل المنافسين المحتملين في معركة الرئاسة إذا جرت انتخابات رئاسية، وإذا كان أداء حكومته الجيد وانحيازها للناس بالعمل على تحسين ظروف معيشتهم، وتخفيف آثار الأزمة عليهم، هي أهم أسباب خروج الناس دعما له ضد قرار عقيلة صالح ورهطه، ومن ثم صعود نجمه السياسي، فإن السبب الأهم هو قربه من الناس، وسلوكه المتواضع معهم، وسعة صدره وصبره ، وخطابه البسيط غير المتكلف، إذ أزاح عنه الصورة النمطية للحاكم والسلطان، و نشط في الذاكرة الجمعية صورا لنماذج مبجلة في التاريخ للحاكم المتواضع الذي يسعى لخدمة الناس لا التسلط عليهم.
الفصل الأخير في نزاع البرلمان مع الحكومة غير الكثير من قواعد اللعبة السياسية، و من ثم فمشهد الجمعة الماضية سيعيد رسم خارطة التحالفات السياسية، وبقدر ما سيكون الدبيبة منتشيا بهذا النجاح المذهل في استقطاب الشارع، بقدر ما سيعاني صالح وحليفه اللدود حفتر من آثار الصدمة، ولم يبق لديهما الكثير من الوقت للمناورات وخلط للأوراق إزاء الاصرار الدولي على تنفيذ الانتخابات في موعدها.
(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)